نموذج من اهتمام اﻹمام الخليلي بطلبة العلم
في عهد اﻹمام محمد بن عبدالله الخليلي -رحمه الله- حلت بالدولة العمانية أزمة اقتصادية تمثلت في قلة الموارد، فعاش الناس حينها حالة من التقشف، وقطع اﻹمام على نفسه عهدا ألا يأكل إلا ما يأكله عامة الناس (ولا يصلح للخلافة الكبرى إلا من كانت هذه الصفات صفاته)، فضاق العيش بطلبة اﻹمام الخليلي الذين يسكنون معه في حصن نزوى وأولئك اﻵخرين الذين استأجروا بيوتات خارج الحصن!
جاءه أحد صغار الطلبة الذين استقلوا بيتا خارج الحصن مع زملائهم وكانت دولة اﻹمام هي من تتكفل بالمسكن مع مبالغ شهرية تدفع للطلبة، جاءه الطالب الصغير نيابة عن زملائه يحمل رسالة شفوية!
تقدم الفتى الصغير بخطوات ثابتة، كانت تبدو عليه معاني الصبر والصمود، ووجهه الشاحب ينبئك ببعض الخبر، عيناه لم تكادا تفتحان إلا بنظرات خافتة وكأنه يتأمل شيئا في مكان بعيد، رآه اﻹمام -رحمه الله- وهو قادم إليه بخطواته المثقلة فانتظره، وقف اﻹمام وقفته الثابتة لينتظر أصغر تلاميذه، هبت النسائم ليرى التلميذ قبل وصوله إلى إمام الدولة كيف يصفق الثوب البالي في جسد اﻹمام النحيل!
سلم التلميذ على أستاذه وإمامه فرد اﻹمام السلام، لم يتمكن اﻹمام بتوجيه أي سؤال إلى تلميذه الذي بلغ الحلم لتوه؛ فقد بادره التلميذ بسؤال كان إشارة لذلك اﻹمام الذي أعد أولئك الرجال ليكونوا مشاعل هداية، قال التلميذ لﻹمام: يا إمام المسلمين إلى أين تريد أن تذهب بطلبة العلم؟! أإلى الموت؟!
لم يكن ﻹمام المسلمين أن تستفزه الكلمات فقد جند نفسه ﻹقامة العدل ولتنشئة طلبة العلم، أطرق اﻹمام قليلا ثم قال: ولم ذلك؟!
قال التلميذ: لم يأكل الطلبة شيئا منذ أيام! لقد أعياهم الجوع، لقد أنهكهم! إنهم مصرون على متابعة طلب العلم لكن الجوع المر الذي يعانون منه قطع أصوات المذاكرة وأغلق اﻷعين الساهرة!
اعتدل اﻹمام في وقوفه وقال للتلميذ: اتبعني..
دخل اﻹمام الحصن والتلميذ معه، توجه اﻹمام إلى خرس في زاوية (الخرس: إناء فخاري كبير تحفظ فيه اﻷطعمة).
وكان الخرس مغطى بغطاء حديدي سميك ذي وزن ثقيل، أمسك اﻹمام بطرف الغطاء وأزاحه بسرعة فانفلت الغطاء من يده وسقط على قدمه!
لم يستطع اﻹمام الوقوف من شدة اﻷلم فجلس على اﻷرض، فطلب اﻹمام من تلميذه أن يضغط على قدمه عل ذلك يخفف من ألمه!
نظر التلميذ إلى اﻹمام نظرة اعتذار فابتسم اﻹمام وبادله نظرة يهون فيها ما هو عليه..
لحظات قليلة وإذا باﻹمام يقوم مجددا معلنا بلسان حاله: أن ما عليه الرعية هو أعظم مما عليه هو!
تناول إناء من السعف وأخرج من الخرس كمية من التمر وناوله للتلميذ، وقال له: خذ هذا ﻷصحابك، وسأرسل لكم لاحقا جراب تمر، وما فضل عن حاجتكم فأرجعوه لبيت المال..
ذهب التلميذ وقد جدد في نفسه اﻷمل، دخل على أصحابه وزملائه فإذا بهم على الزوايا شاحبة ألوانهم لا يستطيعون فتح أعينهم!
دعاهم إلى الطعام فأكلوا تمرات وحسوا عليها من الماء، فبدأت تتفتح أعينهم وأحسوا برجوع الحياة إلى أجسادهم المتهالكة!
فرجع بعضهم إلى كتبه وآخرون اتجهوا إلى المساجد وإلى جامع اﻷئمة لينهلوا من العلم كعادتهم بعد انقطاع يسير..
وبعد انتهاء موسم الدراسة أرجع الطلبة ما فضل من حاجتهم لبيت المال.. إنه الورع واﻷمانة الذي تميز به أولئك الفتية وتربوا عليه من إمام المسلمين.
لقد أدرك اﻹمام حاجة الدولة وحاجة المجتمع إلى طلبة العلم والعلماء فكان شديد الاهتمام بطلبة العلم مع قلة الموارد التي تعاني منه دولته ومع ذلك أصر على تنشئة طلبة العلم الذين ما زال نورهم وفضلهم يتﻷﻷ في أرض عمان الخالدة..
(أخبرني بتفاصيلها شيخنا العلامة سيف الفارسي -رحمه الله- وقد لمعت عيناه بالدموع عندما ذكر خبر سقوط الغطاء الحديدي على قدم اﻹمام -رحمه الله-)
✒ إسحاق الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق